المواد المُغيرة للحالة المزاجية تبدأ من الكافيين في الشاي والقهوة، والكحول في النبيذ والبيرة، والنيكوتين في السجائر والشيشة، ولا تنتهي بالأفيونات في الهيروين والأمفيتامين في الماكس.
وكثيرًا ما يخلط الناس بين استخدام (use) المواد المُغيرة للحالة المزاجية مرة واحدة أو عدة مرات بدون أضرار تُذكر، وبين سوء استخدام هذه المواد بما يؤدي إلى ما يسميه العلم حاليًا اضطرابات. فمثلاً الكافيين في القهوة والشاي ومشروبات الكولا يُغير الحالة المزاجية وهو قانوني وشرعي وغير مُحرم دينيًّا. مع ذلك، فإن الإفراط في هذا الاستخدام هو شكل من أشكال سوء الاستخدام (abuse or misuse) ومُصنف بوضوح كأحد أشكال الاضطرابات المتصلة بسوء استخدام المواد المُغيرة للحالة المزاجية. وقد يصف الطبيب مُهدئ نفسي مثل الفاليوم لبعض المرضى كمرضى القلب أو القلق، أو مسكن قوي للألم كالترامادول لمريض كُسِر ذراعه، أو المورفين لمريض بالذبحة الصدرية. وهذا استخدام مشروع وغير مؤذ، بينما الإفراط في استخدام هذه الوصفات الطبية أو استخدام هذه الأدوية بدون وصفة طبية هو بدون شك مؤذ صحيًّا أو خطر، ويندرج تحت تصنيف سوء الاستخدام.
التعاطي لفظ له دلالات قانونية أساسًا، ويُستخدم غالبًا لوصف استخدام المواد المحظور حيازتها واستخدامها. لكن كثيرًا ما يجري استخدامه لوصف أي سوء استخدام. وهو منتشر إعلاميًّا وكثيرًا ما يتم خلط المصطلحات في التقارير الإعلامية.
الاعتمادية لفظ تم تفضيله في الدوائر العلمية لعقود من الزمن، ويصف حالة اعتماد الشخص في تحقيق توازنه النفسي والجسدي على استخدام مادة ما (كحول، أو مخدرات، أو مهلوسات، أو أي مادة أخرى مُغيرة للحالة المزاجية)، ثم الاستمرار في هذا الاعتماد بالرغم من الأضرار، وفقدان السيطرة على الاستخدام، والانشغال الزائد بهذا الاستخدام. وسقط هذا التفضيل عام 2003 واختفي تعبير الاعتمادية تمامًا من الإصدار الخامس للدليل التشخيصي والإحصائي للجمعية الأمريكية للطب النفسي DSM-5، وعاد تعبير “السلوكيات الإدمانية للظهور في هذا الدليل وكنا قد توقعنا هذا منذ عدة سنوات. ونتوقع نفس التغيير في الإصدارات الجديدة من التقسيم الدولي للأمراض ICD التي تصدر عن منظمة الصحة العالمية.
ومن الجدير بالملاحظة في هذا السياق، إصرار الجمعية الدولية لطب الإدمان International Society of Addiction Medicine والجمعية الأمريكية لطب الإدمان American Society of Addiction Medicine على استخدام تعبير “إدمان”، ومقاومتهما لتعبير “اعتمادية” طوال فترة غُلبة هذا التعبير. ولعلنا نبدأ بتعريف الإدمان من منظور هاتين الجمعيتين ونواصل استكشاف الجدل العلمي من محطة الانطلاق هذه.
ما هو الإدمان؟
هناك عدد من التعريفات مطروحة وفاعلة على الساحة العلمية والعملية، منها: تعريف الجمعية الدولية لطب الإدمان (ISAM)، والجمعية الأمريكية لطب الإدمان (ASAM). ويمكن تلخيص تعريف هاتين الجمعيتين فيما يلي:
مرض أولي مزمن يتصف بما يلي:
- استخدام المواد المُغيرة للحالة المزاجية بالرغم من الأضرار البدنية أو النفسية أو الاجتماعية.
- الانشغال الزائد باستخدام هذه المواد أو محاولة الحصول عليها، أو حتى محاولة الإقلاع عن استخدامها.
- فقدان السيطرة على هذا الاستخدام كما يظهر في كثرة الانتكاس، أو زيادة الجرعة عن المخطط له، أو زيادة عدد مرات الاستخدام عن المخطط له.
كما يتميز بتقلص مقدرة التعرف على حجم المشاكل الناتجة عن استخدام المواد المُغيرة للحالة المزاجية (تشوش التفكير والإنكار).
ويؤكد التعريف أيضًا التغيرات في التشابكات العصبية بالمخ، خاصة فيما يُسمى دوائر المجازاة Reward Circuits (أو مركز اللذة).
نلاحظ استخدام الجمعية الدولية لطب الإدمان والجمعية الأمريكية لطب الإدمان للفظ “مرض”، بينما يستخدم كل من الإصدار الخامس للدليل التشخيصي والإحصائي للجمعية الأمريكية للطب النفسي DSM-5 والإصدار العاشر للتقسيم الدولي للأمراض ICD-10 تعبير “اضطراب” Disorder وليس مرض. وهذا يعكس عقيدة تلك الجمعيتين التي تتبنى ما يُسمى مفهوم المرض The Disease Concept ، أي أن الإدمان مرض أولي (أي ليس ناتجًا عن مشاكل أخرى، بل هو مرض قائم بذاته). وقد روّج العالِم الرائد يلنيك Jellnick لهذا المفهوم بناء على دراسته لبرامج الخطوات الإثنا عشر في كتابه الكلاسيكي الذي يحمل هذا الاسم والصادر عام 1968.
التعريف في القاموس
الكلمة اللاتينية Addictus (إدمان) لا تشير بالضرورة في استخداماتها القديمة للمدلول، وقد استخدمها قدامى الرومان في سياق ديني ضمن سياقات أخرى. وهي تعني حرفيًّا وهب النفس بالكامل وتكريسها لشخص أو لشيء أو لإله أو وثن … إلخ.
وهذا المدلول ينطبق على هذا اللفظ – وهو الموازي للفظ اليوناني Tasso – المُستخدم في العهد الجديد (الإنجيل)، ولم يُستخدم في العهد الجديد إلا بهذا المعنى الإيجابي. وتُرجم باللفظ Addiction في الترجمة الإنجليزية للكتاب المقدس King James Version، وهي الترجمة المُعتَمدة تاريخيًّا بهذه الصورة الإيجابية في كورنثوس ألأولى 17:10، رتبوا أي كرسوا وأعطوا أنفسهم Addicted themselves (Tasso) لخدمة القديسين … وهكذا.
الإدمان إذن هو تكريس وإخضاع الحياة الشخصية، وتسليم النفس لعادة ما أو لمادة مخدِرة، مع تسليم الشخص لروحه لما سلّم نفسه له (من مادة، أو سلوك، أو شخص .. إلخ).
الناركومينا في بعض اللغات (الفرنسية، والروسية، والاسكندنافية)، تعني الهوس بالمخدرات.
الإدمان في اللغة العربية: إدمان الشراب في مختار الصحاح يعني معاقرة الخمر وعدم تركها. وهو قريب في المعجم من “دمنة”، والدمنة نوع من الطحالب والعُشب غير قابل للأكل، ينمو على كميات ضئيلة من الماء ويجعلها غير صالحة للشُرب. وكانت تذهب إليه قوافل العُربان في الصحراء ظنًا أنها ستجد الماء والغذاء فيخيب ظنها.
يُستخدم التعبير العربي “إدمان” لترجمة التعبير الإنجليزي “أديكشن”، واللاتيني “أديكتوس”، والفرنسي والروسي والسويدي “ناركوماني”. هذا مع ملاحظة الفروق بينهما، لكن ما يجمعهم جميعًا هو التعلُق لأقصى درجة بمادة ما كالخمر أو بسلوك ما كالقمار مثلاً.
الإدمان والاعتمادية
لقد صار الاسم المُستخدَم في التقسيمات الرسمية للاضطرابات النفسية منذ ثمانينيات القرن المنصرم هو الاعتماد أو الاعتمادية Dependence، وحاولت بعض الأوساط العلمية استبدال هذا التعبير بالتعبير “القديم” إدمان Addiction لمدة طويلة من الزمن، لكن لفظ الإدمان لم يختف تمامًا وعاود الظهور وبقوة منذ 2013. وقصة الكر والفر في هذا المصطلح جديرة بالذكر. فلأكثر من 30 سنة ساد لفظ الاعتمادية في كل مطبوعات منظمة الصحة العالمية، وفي تصنيف الأمراض الذي يخرج عن هذه المنظمة وخاصة في إصداره التاسع، والمراجعات الأولى للإصدار العاشر. لكن المتتبع يجد أن علماء الجمعية الأمريكية للطب النفسي كانوا الأكثر نفوذًا في هذا الاتجاه، خاصة في ما يصدر عنها من مطبوعات وأشهرها الدليل التشخيصي والإحصائي في إصداريه الثالث والرابع Diagnostic and Statistical Manual (DSM-III, DSM-IV)، حيث كانت هذه الأدبيات العلمية تنظر لكلمة إدمان على أنها لفظ ازدرائي.
ومع ذلك ظلت الجمعية الأمريكية لطب الإدمان تصر على استخدام مصطلح “الإدمان”، وكذا الجمعية الدولية لطب الإدمان. وظلت بعض وسائل المؤسسات العلمية النافذة تستخدمه كمصطلح رئيسي مثل دورية “الإدمان” البريطانية، والمؤسسة القومية للإدمان هناك، … إلخ.
يرجع زمن أسباب هذا التمسك بلفظ إدمان إلى أن كلمة الاعتمادية في نظر كثير من العلماء ليست أقل في ازدرائها من الإدمان. ومن أشد المتمسكين بلفظ “الإدمان”، العلماء والنشطاء المدافعين عن فلسفة الخطوات الاثنا عشر (المدمنون المجهولون NA، ومدمنو الخمر المجهولون AA) على أساس أن هذا اللفظ:
- أدق في وصف الظاهرة بما فيها التصاق شديد وانشغال بمادة أو سلوك حتى فقدان السيطرة على النفس.
- يجعلنا نفهم ظاهرة التنقل بين نوع من الإدمان وأنواع الإدمان الأخرى؛ أو الإدمان المتنقل، أي التحول من إدمان لنوع من المخدرات إلى إدمان نوع آخر: مثل التحول من الاعتماد على المخدرات إلى الكحوليات، أو الجنس، أو العمل. وذلك أيضًا بنفس معايير فقدان السيطرة والانشغال الدائم والتعاطي، رغم النتائج العكسية.
- يجعلنا نركز على هيكل عام يحتوي على كل العناصر المشتركة للظاهرة الإدمانية، وهو مرض الإدمان نفسه، بدلاً من التركيز على نوع المادة مثل الهيروين، الكحوليات … إلخ (Miller, N. S., 1995).
1 فكرة عن “التعريفات المختلفة لكلمات الاستخدام والتعاطي وسوء الاستخدام والاعتمادية والإدمان”
مقالة عظيمة