الإحساس باللذة أو النشوة أو “الدماغ” أو “عدلة المزاج” هي السبب الرئيسي لاستخدام المواد المغيرة للحالة المزاجية من أول النيكوتين في السجاير إلى الأفيونيات في الهيروين. وينطبق هذا أيضا على الاستمرار في السلوكيات التي نسميها سلوكيات إدمانية مثل القمار و العلاقات الجنسية والإفراط في الطعام. إلا أن هناك تفاعلات كثيرة ترتبط بهذا الإحساس. من أول التنبه بأن المرء قد يكون قد أفرط في الشراب مثلاً إلى التقبل أو الرفض الاجتماعي لاستخدام مادة معينة إلى وجود أو غياب فرص للحصول على إحساس مماثل من خلال خبرات أخرى متنوعة. ومن جهة أخرى القدرة على التعامل مع ضغط الأقران والاستخدام الجيد لمهارات الحياة وهكذا تلعب أدوارا هامة. وكلها عوامل تختلف من فرد لفرد ومن مجموعة لأخرى وتتحكم فيها عناصر وراثية وفردية وعائلية وثقافية. الدراسات العلمية تشير إلى أن أسباب استخدام وتعاطي وإدمان المواد المغيرة للحالة المزاجية يمكن تقسيمها إلى عدد من المستويات، بداية من مستوى الكيمياء الحيوية داخل خلايا المخ وهي التي تتحكم في تحقيق الإحساس الطيب (الدماغ) ونهاية بالموقف من الكون كله. وسنعرض لموجز هذه الأسباب على سبعة مستويات (نقدمها فى عدة مقالات متتالية فى الوقت القادم بمشيئة الله):
- مستوى الكيمياء الحيوية (كيمياء المخ والأعصاب).
- مستوى الجينات والوراثة.
- مستوى النفس الإنسانية: من المنظور المعرفي السلوكي والمنظور النفسي الدينامي ومنظور السمات الشخصية.
- مستوى العائلة.
- مستوى المجتمع.
- مستوى الثقافات والحضارات.
- المستوى الوجودي ورؤية الكون.
- كيمياء خلايا المخ والأعصاب: سحر الدوبامين وآلية المجازاة
الجهاز الحشوي: مركز الإنفعالات المرتبطة بالحياة
اللذة أو “عدلة المزاج” أو “الدماغ” أو الإحساس الخاص المصاحب لاستخدام هذه المواد هو السبب الرئيسي لاستخدام المواد المغيرة للحالة المزاجية ولاستمرار وتكرار السلوكيات التي نسميها سلوكيات إدمانية. ومفتاح فهم “الدماغ” أو “الكيف” أو النشوة المصاحبة لكل الإدمانات هو في المخ وتحديدا في منطقة في المخ تسمى الجهاز الحشويLimbic System . الجهاز الحشوي هو جزء هام داخل مخ كل الحيوانات بداية من الزواحف وانتهاءاً بالإنسان مروراً على كل الطيور والثدييات. إذا شققنا مخ كل هذه الحيوانات من منتصفه نرى في وسط المخ مجموعة مراكز متصلة ببعضها نسميها معا الجهاز الحشوي وكلها تتربط بانفعالات قوية، وتتصل بالمراكز المتحكمة في الوظائف الأساسية المسؤولة عن الحياة أي مراكزالجوع والعطش ودرجة الحرارة والجنس والغضب والإحساس بالخطر وحتى الحب والصداقة والعلاقات الطيبة. الجهاز الحشوي جزء رئيسي مما يسمى المخ البدائي وهو موجود في جميع الحيوانات بأحجام نسبياً متماثلة. بينما قشرة المخ التي تقع في الجزء الخارجي من المخ وتتحكّم في التفكير وإدراك ما نراه وما نسمعه وما نلمسه ونشمه ونذوقه وبها مركز التحكم الارادي في عضلات الحركة ليست كذلك. حيث يزداد حجم القشرة المخية بصورة كبيرة نسبياٌ عند الإنسان والقرود العليا مقارنة بالزواحف أو القوارض مثلا.
الدوبامين كيمياء اللذة والرضا
لابد من مراجعة سريعة لأساسيات الخلايا العصبية لنفهم كيف تحدث اللذة في المخ. يتكون المخ والجهاز العصبي من خلايا متنوعة الأشكال والأحجام تسمى الخلايا العصبية (او النيورونات). وكل خلية منها تتكون من جسم أساسي للخلية وفرع واحد طويل (الأكسونAxon ) و مجموعة من الفروع القصيرة (الدندريات Dendrites). وتنتقل الأشارة العصبية الكهربية من جسم الخلية إلى الأكسون حيث تنتهى الخلية بمساحة فارغة تسمى الوصلة العصبية Synaptic Junction . وعند وصول الِاشارة الكهربية هناك تنطلق مادة كيميائية تسمى الناقل Transmitter ولكل نوع من الخلايا ناقل خاص بها. وعند إفراز هذا الناقل الكيميائي تلتقطه مستقبلات في الفروع القصيرة للخلية التالية فتسري الإشارة العصبية في الخلية التالية وهكذا. وقد تتجمع مجموعة أجسام خلايا عصبية فتشكل ما يطلق عليه مركز عصبي centre أو نواة nucleus أو عقدة عصبية Ganglion أو قد تتوزع أجسام الخلايا في منطقة أو مساحة معينة محددة area .
وعودة لكيمياء اللذة، توجد داخل الجهاز الحشوي آلية تُعرف باسم آلية اللذة أو المكافأة أو المجازاة Brain Reward Mechanism . تبدأ هذه الآلية بمجموعة من أجسام الخلايا العصبية من أعلى نقطة فيما يسمى بالمخ الأوسط Midbrain في أعلى نقطة من جذع المخ Brain Stem وتسمى Ventral Tegmental Area وهي منطقة صغيرة جدا قريبة من آخر المخ من الخلف. هذه المجموعة من الخلايا هى بداية آلية المجازاة وتمتد عبر مجموعة من الأكسونات (الفروع الطويلة للخلية العصبية) التي تمر حول كل مراكز الجهاز الحشوي الحيوية التي ذكرناها وتنتهي هذه الأكسونات حيث يفرز الناقل الكيميائي الخاص بهذه المنطقة: الدوبامين. ويلتقي الدوبامين في الوصلات العصبية Synaptic Junction بمجموعة أخرى من الخلايا متجمعة فيما يسمى بالنواة المنكفأة Nucleus Accumbans. عند إفراز الدوبامين يشعر الإنسان باللذة والرضا وعندما تزداد كمية الدوبامين تزداد اللذة. ويفرز الدوبامين بصورة تلقائية عندما يأكل الإنسان (أو الحيوان) خاصة بعد جوع وعندما يشرب أو يمارس الجنس أو يستدفأ في البرد أو يستمتع بنسيم بارد في الحر. وأيضا عند مواجهة الخطر أو في المغامرة أو عندما ينجز عملاً يرضى عنه أو يشعر الإنسان بالصفاء في الصلاة أو الألفة في صحبة مجموعة صادقة. كل هذه الأنشطة والخبرات ضرورية للبقاء على قيد الحياة ولذا يكافيء المخ عليها بالشعور الطيب أو اللذة أو النشوة التي ترتبط بإفراز الدوبامبن في مركز المجازاة.ويزداد الشعور الطيب كلما ازدادت كمية الدوبامين الذي يفرزه المخ في آلية المجازاة داخل الجهاز الحشوي.
كل المواد الكيميائية التي تغير الحالة المزاجية تسبب في النهاية إفرازاً للدوبامين. بداية من الكافيين والشاى والسكر ونهاية بالهيروين ( وكل الإفيونيات بما فيها الكوديين والأفيون) والكوكايين (وجميع المنشطات)، ومرورا بالكحول (بأنواعه من البيرة للفودكا) والحبوب المهدئة ( الفاليوم والزاناكس والأتيفان والكاليبام والزولام والليريكا والروهيبنول المعروف بابوصليبة والريفوتريل أبو صليبة الصغير) والباربيتورات والمهلوسات والحشيش والبانجو (وكل القنبيات) والمتطايرات (الايروسولات) والكولة والغراء وغيرها. كما تحدث آثار أخرى بسبب تأثيرات هذه المواد على مراكز أخرى في جسم الإنسان (كتأثير الأفيونيات مثلا على مراكز تمرير الألم في الحبل الشوكي بالنسبة) وفي مخه (مثل تأثير الأفيونيات على النواة الزريقاء Nucleus Coerulus التي تقع خلف بداية ألية المجازاة مباشرة وإلى الأسفل منها قليلاً).
ذاكرة اللذة
ثم إلى جوار الجهاز الحشوي يقع مركز الذاكرة في الفص الصدغي للمخ Temporal Lobe وفيه يتذكر الإنسان خبرات اللذة القوية ويراكمها وترتبط هذه الخبرات بشعور قوي أنه قد يفقد حياته أو يتأذى إيذاءاً شديدا إذا فقد هذه المجازاة. وقد أشارت الدراسات الأحدث أن ذاكرة اللذة تحدث بطريقة قوية تسمى البصم imprinting في مراكز الذاكرة المجاورة لآلية المجازاة، أي على حدود الجهاز الحشوي. وهذه الذاكرة هي التي قد تدفع المدمن إلى العودة للتعاطي أو للسلوك الإدماني.
قياس سرعة وكمية الدومابين في حيوانات التجارب
من أعظم اكتشافات ما سمي بعقد المخ أي العشر سنوات بين 1994 و 2004 التمكن من وضع مجسات متناهية الصغر داخل المخ في حيوانات التجارب. وبها أمكن قياس كمية الدوبامين وسرعة إفرازها في آلية المجازاة. فوجدنا أن سرعة وكمية الدوبامين تتراوح من مادة إلى أخرى فتزداد جدا الكمية وسرعة الإفراز في الهيروين والكوكايين بينما تقل كمية الدوبامين جدا وتكون سرعة إفرازه بطيئة نسبياً عند تناول الكافيين مثلا. بينماالكمية والسرعة متوسطة عند تناول الكحول والمهدئات و وكذا عند تدخين الحشيش والبانجو وهكذا. ومن ثم صار معروفا الآن أن قوة المادة المخدرة أو المغيرة للمزاج وقدرتها على الـتأثير تأثيرا جسيما وسريعا على حياة من يتناولها أي إحداث “الإدمان” لا صلة لها بقوة أعراض الانسحاب- أي الأعراض الجسدية والنفسية المؤلمة عند التوقف عن التعاطي بل هي متوقفة أساسا على كمية الدوبامين التي تتسبب المادة المخدرة أو المغيرة للحالة المزاجية في إفرازها في الجهاو الحشوي وسرعة هذا الإفراز. فمثلا الهيروين أعراض أنسحابه أضعف من أعراض انسحاب المواد المهدئة. لكن إدمانيته أو قدرته على إحداث تأثير جسيم وسريع على حياة الإنسان أقوى كثيراً.
تحديد طبيعة السلوك الإدماني من خلال حيوانات التجارب
يعرف الملاحظون لنمط حياة مدمني الكوكايين أنهم يمرون في نوبات تمتد أسابيع أو شهور من التعاطي الشديد الذي قد يخسرون فيها خسائر جسيمة أو حتي يفقدوا حياتهم ثم قد يتوقفون فجاءة عن التعاطي ويستأنفون حياة شبه طبيعية عدة شهور أو أسابيع ثم يمرون في نوبة تعاطي أخرى وهكذا. بينما مدمنو الهيروين غالبا ما تتدهور أحوالهم بصورة مطردة ومستمرة وبلا توقف يذكر لمدة سنين طويلة.
في تجربة معملية على فئران التجارب وضعوا أمامهم بدال بالضغط عليه يتمكن الفأر من تناول الماء والغذاء وبدال آخر بالضغط عليه يتم حقن الفأر بالكوكايين. أوضحت النتائج أنه في حالة الحقن بالكوكايين يتوقف الفأر عن الضغط على بدال الغذاء ويستمر في حقن نفسه بالكوكايين مدة ولا يدوس على بدال الطعام أو حتى الماء حتى الموت أو قد يتوقف فجاءة ويضغط على بدال الطعام والماء لفترة ثم يعود للكوكايين مرة أخرى وهلمجرا.
بينما عندما يتم حقنه بالهيروين وُجد أن الفأر يحقن نفسه عدة مرات بالهيروين قبل أن يدوس مرة أو مرتبن على بدال الماء والطعام ولا يغير هذا النمط. وهكذا يتدهور ببطء منتظم لمدة طويلة. وتكررت النتائج مع أنواع مختلفة من حيوانات المعامل. والخلاصة أن نمط إدمان الإنسان لا يختلف كثيرا عن نمط إدمان الحيوانات.
حسمت هذه الدراسات واقع أن الإدمان يرتبط أساساً بمركز المجازاة في المخ، و أن الدوبامين هو أقوى عناصر العملية الإدمانية. بما يفسر أيضا ظاهرة الإدمان العابر cross addiction أو انتقال المدمن من إدمانٍ مادة معينة كالهيروين مثلا إلى إدمان مادة ربما كان لا يفضلها إطلاقا مثل الكحول مثلا. فتجد مدمن الهيروين ينزلق إلى إدمان عنيف للكحول إن توفر الكحول واختفي الهيروين أو قد يدمن الممارسات الجنسية أو القمار أو الإفراط في الطعام. وهكذا كل هذه الإدمانات ترتبط بمواد مختلفة تؤثر في مناطق مختلفة من المخ والجهاز العصبي والجسم كله لكنها جميعا تشترك في قاسم مشترك أعظم واحد هو الدوبامين في آلية المجازاة.